تحرير الحُديدة أولوية قصوى في مواجهة الحوثيين في اليمن : لماذا ينبغي لواشنطن ولندن وضعها في صدارة الأجندة؟
- 2025-09-25 09:37:01

رأي/تحليل- جمال العواضي — باريس
لم تُغيِّر الضربات الجوية المنفردة ميزان القوى مع الحوثيين كما يأمل كثيرون؛ فالهجمات على الملاحة في البحر الأحمر مستمرة، وكُلفة التجارة العالمية تتصاعد، فيما تبقى القيادة الحوثية محصّنة بشبكاتٍ تحت الأرض وتموضعٍ موزَّع. إذا كان الهدف هو خفض قدرة الحوثيين على الابتزاز البحري والتهديد الإقليمي، فإن تحرير الحُديدة بشراكةٍ يمنية مدعومةٍ سياسيًا ولوجستيًا من الولايات المتحدة وبريطانيا يجب أن يُرفَع إلى مرتبة الأولوية القصوى.
ما الذي يجعل الحُديدة هدفًا مفصليًا؟
الحُديدة (ومعهـا الصليف ورأس عيسى) ليست مجرد ميناء؛ إنها شريانٌ اقتصادي وإنساني حيوي لليمن. تقديرات أممية سابقة تُشير إلى أن نحو 70% من واردات البلاد و80% من المساعدات مرّت عبر هذه الموانئ في ذروة الأزمة، ما يجعل التحكم بها عاملًا فارقًا في تمويل سلطة صنعاء وقدرتها على الصمود. كما أن آلية التفتيش والتحقق الأممية (UNVIM) تُدير تدفق السفن إليها، ما يعني أن تغيير وضع الميناء وآلياته يُحدث أثرًا سريعًا على منظومة الإيرادات والقدرة اللوجستية لدى الحوثيين.
وعلى مدار 2023–2024، وثّقت تقارير البنك الدولي تحوّلًا متزايدًا في حصة الواردات لصالح موانئ الحُديدة مقارنةً بموانئٍ أخرى كعدن، وهو ما يُعزّز وزن الميناء في اقتصاد الشمال وقدرته على إنتاج عوائد جمركية ورسوم تُموّل المجهود الحربي. حتى تقديرات مراكز أبحاث استندت إلى تقرير خبراء الأمم المتحدة أشارت إلى مليارات الدولارات من إيرادات الوقود عبر مناطق الحوثيين خلال 2022
لماذا لا تكفي الضربات الجوية؟
منذ يناير/كانون الثاني 2024 شنّت الولايات المتحدة وبريطانيا ضربات متكرّرة لتحجيم هجمات الحوثيين على الملاحة. النتيجة: تأثير تكتيكي محدود؛ تعطيلٌ مؤقّت لبعض المنصّات، لكن التهديد البحري استمر وإعادة التمركز كانت أسرع من تحقيق أثرٍ رادعٍ دائم—بل إن تكلفة الشحن قفزت وشهدت خطوط الملاحة تحوّلات مؤلمة. بكلمة: القصف يُؤلم، لكنه لا يقتلع مراكز الثقل.
يُضاف إلى ذلك أن الحوثيين طوّروا تموضُعًا محصّنًا ومُوزّعًا (أنفاق/مخابئ/مستودعات تحت الأرض) يقلّص من جدوى الضربات فوق السطح، وهو نمط وثّقته تقييمات حكومية وبحثية خلال أزمة البحر الأحمر.
لماذا «تحرير الحُديدة» الآن وبالشراكة الأمريكية-البريطانية
خنق موارد القوة بدل مطاردة أعراضها: السيطرة على عقدةٍ لوجستية ومالية بحجم الحُديدة تُغيِّر معادلة التمويل والشرعية الاقتصادية لدى الحوثيين، بدل الاكتفاء بملاحقة منصّات إطلاق متناثرة. هذا يُضعف القدرة على تمويل الهجمات البحرية ويحد من رافعات النفوذ الداخلية.
ربط الملف البحري بالملف البري: أمن البحر الأحمر لن يستقرّ طالما بقيت القوّة البرّية للحوثيين محصّنة بمواردٍ مينائية. الشراكة مع واشنطن ولندن اللّتين تقودان الاستجابة البحرية وتدفعان كلفة اقتصادية مباشرة—تُوفّر مظلة سياسية/لوجستية حاسمة للتحوّل من ردعٍ بحري إلى حسمٍ بريّ عند نقطة حرجة واحدة.
تقليص ارتباط إيران بالشبكات اللوجستية: تقارير خبراء الأمم المتحدة ووكلاء الشحن توثّق مساندة إيرانية تقنية ومالية للشبكات الحوثية، وتوصي بتشديد الرقابة على مسارات التهريب. إعادة تشكيل وضع الحُديدة—إدارةً وإيرادًا—تُصعّب تدوير تلك الشبكات وتُحاصر الاستفادة المالية.
«ستوكهولم» ليس صكًّا مفتوحًا إلى الأبد :
اتفاق ستوكهولم (2018) جُمّد بموجبه القتال في الحُديدة تحت رقابة UNMHA للحؤول دون كارثة إنسانية. لكن الواقع تغيّر: تهديدٌ عابر للحدود للملاحة العالمية وتحوّل الميناء إلى رافعة مالية وعسكرية لطرفٍ يهدد الاقتصاد الدولي. إعادة تقييم ترتيبات الحُديدة سياسيًا وقانونيًا بات ضرورة لحماية الأمن البحري والغذائي معًا، لا تعارضًا بينهما.
كيف يُنفَّذ التحرير دون كارثة إنسانية؟
ليست الدعوة إلى تحرير الحُديدة تفويضًا للتدمير؛ بل على العكس، تحريرٌ تشغيلي-إنساني يحوّل الميناء من رافعة حرب إلى منفعة عامة تحت إدارة محايدة، وبضمانات أمريكية-بريطانية تُسرِّع الاستقرار وتمنع الانهيار الإغاثي:
إبقاء الميناء عاملاً منذ اللحظة الأولى عبر إدارة مدنية/مهنية محايدة (بالتنسيق مع الأمم المتحدة) تُواصل استقبال السلع الإنسانية والتجارية، مع تشديد UNVIM وفحص ذكي قائم على المخاطر.
فصل الإيرادات عن المجهود الحربي عبر آلية مالية شفافة تذهب مباشرةً إلى دفع الرواتب والخدمات في عموم اليمن—لا إلى صُندوق الحرب، على نحوٍ طالبت به مرجعيات أممية مرارًا.
حماية الممرات المدنية وخُطط إخلاء وممرات طبية مسبقة التجهيز، لتفادي تكرار سيناريوهات الانقطاع في المساعدات عند كل هبّة تصعيد. (تحذيرات أممية سابقة أبرزت هشاشة سلاسل الإمداد في الحُديدة عند أي ضرر لوجستي).
حملة متزامنة على شبكات التمويل والتهريب (عقوبات/تتبّع شحن/تجفيف واجهات مالية)، وهي أدوات طالبت بها واشنطن ولندن في مجلس الأمن لمنع وصول الصواريخ والمسيّرات، مع الحفاظ على تدفق السلع الأساسية.
لماذا واشنطن ولندن بالذات؟
لأنهما يتحمّلان العبء الأكبر من حماية خطوط الملاحة، ولديهما القدرة السياسية واللوجستية على توفير الغطاء والتحفيزات اللازمة لعملية دقيقة تُوازن بين الحسم البري والحدّ الإنساني. وإذ تُظهر التقييمات أن الضربات وحدها لم تُنهِ التهديد الحوثي، فإن نقل الثقل إلى عقدة الحُديدة—بدعمٍ أمريكي-بريطاني—هو الطريق الأقصر لتقليل الهجمات البحرية، وخفض كُلفة التأمين، واستعادة انسياب التجارة.
تحرير الحُديدة ليس «مغامرةً» ولا «تجاوزًا»؛ بل تصحيحٌ لمسار الردع:
ضربٌ لمركز العصب المالي-اللوجستي الذي يُغذي آلة الحرب، مع إبقاء الرئة الإنسانية تعمل تحت إدارة محايدة. إن إصرار المجتمع الدولي على الاكتفاء بالقصف سيُبقي العجلة تدور. أمّا تحويل الحُديدة إلى ميناءٍ مفتوحٍ بلا احتكار سياسي ولا ريعٍ حربي فسيحوّل «الشريان» من مصدر قوةٍ لجماعةٍ مسلحة إلى رافعة ضغط تُعيد الانضباط لخطوط الملاحة وتخفّف الكارثة عن ملايين اليمنيين. هذه أولوية قصوى ينبغي أن تتصدّرها واشنطن ولندن وباقي الشركاء اليوم قبل الغد.